Tamil Bayan Points

رؤية الله

பயான் குறிப்புகள்: அரபி குறிப்புகள் - 2

Last Updated on September 16, 2020 by Trichy Farook

رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل – الشيخ جعفر السبحاني ص 53 :

رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين

4 – الآية الأولى : لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالا ، وأنه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمرا فظيعا ، قبيحا ، موجبا لنزول الصاعقة والعذاب ، والآيات السالفة وضحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال ، غير أنا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات ، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل .
وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق وتحليله .
قال سبحانه : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( الأنعام / 102 – 103 ) والاستدلال بالآية يتوقف على البحث في مرحلتين : المرحلة الأولى : في بيان مفهوم الدرك لغة :
– ص 54 –
الدرك في اللغة اللحوق والوصول وليست بمعنى الرؤية ، ولو أريد منه الرؤية فإنما هو باعتبار قرينية المتعلق .
قال ابن فارس : الدرك له أصل واحد ( أي معنى واحد ) وهو لحوق الشئ بالشئ ووصوله إليه ، يقال : أدركت الشئ ، أدركه إدراكا ، ويقال : أدرك الغلام والجارية إذا بلغا ، وتدارك القوم : لحق آخرهم أولهم ، فأما قوله تعالى : ( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) ( النمل / 66 ) فهو من هذا ، لأن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم ( 1 ).
وقال ابن منظور مثله ، وأضاف : ففي الحديث أعوذ بك من درك الشقاء أي لحوقه ، يقال : مشيت حتى أدركته ، وعشت حتى أدركته ، وأدركته ببصري أي رأيته ( 2 ).
إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة ، فالإدراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر ، والإدراك بالمشي ، كما في قول ابن منظور : مشيت حتى أدركته ، التحاق الماشي بالمتقدم بالمشي ، وهكذا غيره .
فإذا قال سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) يتعين ذلك المعنى الكلي ( اللحوق والوصول ) بالرؤية ، ويكون معنى الجملة أنه سبحانه تفرد بهذا الوصف تعالى عن الرؤية دون غيره . المرحلة الثانية : في بيان مفهوم الآيتين :
( 1 ) ابن فارس ، مقاييس اللغة 2 : 366 .( 2 ) ابن منظور ، اللسان 10 : 419 .( * )
– ص 55 –
أنه سبحانه لما قال : ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أنه إذا صار وكيلا على كل شيء ، يكون جسما قائما بتدبير الأمور الجسمانية ، لكن يدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلا لكل شيء ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) .
وعندما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان أنه إذا تعالى عن تعلق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط الإدراك والعلم بينه وبين مخلوقاته ، يدفعه قوله : ( وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) ثم تعليله بقوله : ( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) واللطيف هو الرقيق النافذ في الشيء و الخبير من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطا بكل شيء لرقته ونفوذه في الأشياء ، كان شاهدا على كل شيء ، لا يفقده ظاهر كل شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء . وبعبارة أخرى أن الأشياء في مقام التصور على أصناف :
1 – ما يرى ويرى كالإنسان .
2 – ما لا يرى ولا يرى كالأعراض النسبية كالأبوة والنبوة .
3 – ما يرى ولا يرى كالجمادات .
4 – ما يرى ولا يرى وهذا القسم تفرد به خالق جميع الموجودات بأنه يرى ولا يرى ، والآية بصدد مدحه وثنائه بأنه جمع بين الأمرين يرى ولا يرى لا بالشق الأول وحده نظير قوله سبحانه : ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ) ( الأنعام / 14 ) ودلالة الآية على أنه سبحانه
– ص 56 –
لا يرى بالأبصار بمكان من الوضوح غير أن للرازي ومن لف لفه تشكيكات نأتي بها مع تحليلها :
الشبهة الأولى : أن الآية في مقام المدح ، فإذا كان الشيء في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه ، كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية حسب ذاته ( 1 ).
إن هذا التشكيك يحط من مقام الرازي ، فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك ، وذلك لأنه زعم أن المدح بالجملة الأولى ، أعني قوله سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) وغفل عن أن المدح بمجموع الجزئين المذكورين في الآية ، بمعنى أنه سبحانه لعلو منزلته لا يدرك وفي الوقت نفسه يدرك غيره ، وهذا ظاهر لمن تأمل في الآية ونظيرتها قوله سبحانه : يطعم ولا يطعم ، فهل يرضى الرازي بأنه سبحانه يمكن له الأكل والطعم .
الشبهة الثانية : إن لفظ الأبصار صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق ، فقوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) بمعنى لا تراه جميع الأبصار ،
( 1 ) الرازي ، مفاتيح الغيب 1 3 : 125 .( * )
– ص 57 –
وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب ( 1 ).
يلاحظ عليه : أن المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الأبصار ، نظير قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ) وقوله سبحانه : ( فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) ( آل عمران / 32 ) وقوله سبحانه : ( وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران / 57 ).
يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ( 2 ).
فهل يحتمل الرازي في هذه الآيات والجمل سلب العموم وأنه سبحانه لا يحب جميع المعتدين والكافرين والظالمين ، ولكن يحب بعض المعتدين والكافرين والظالمين ، أو أن بعض القائلين يبلغون مدحته ويحصون نعماءه .
وهذا دليل على أن الموقف المسبق للرازي هو الذي دفعه لدراسة القرآن لأجل دعمه ، وهو آفة الفهم الصحيح من الكتاب .
الشبهة الثالثة : الإدراك هو الإحاطة إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فصله والرازي في مفاتيح
( 1 ) الرازي ، مفاتيح الغيب 13 : 126 . ( 2 ) نهج البلاغة ، الخطبة الأولى . ( * )
– ص 58 –
الغيب وابن قيم في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ( 1 ) ، وقد أسهبوا الكلام في تطوير الشبهة ، ولا يسع المقام لنقل عباراتهم كلها ، وإنما نشير إلى المهم من كلماتهم .
وبما أن الأساس لكلام هؤلاء هو ابن حزم الظاهري نذكر نص كلامه أولا . قال : إن الإدراك في اللغة يفيد معنى زائدا عن النظر ، وهو بمعنى الإحاطة ، وليس هذا المعنى في النظر والرؤية ، فالإدراك ( الإحاطة ) فيض عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة ، والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) ، ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقا جليا ، لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله : ( فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ ) ، وأخبر تعالى بأنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ، ولكن نفى الله الإدراك بقول موسى ( عليه السلام ) لهم : ( كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) ، فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ، ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته ، فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا قول الله تعالى ( 2 ).
يلاحظ عليه : أن الشبهة تعرب عن أن صاحبها لم يقف على كيفية الاستدلال بالآية على نفي الرؤية ، فزعم أن أساسه هو كون الإدراك
( 1 ) وقبلهم الطبري كما سيوافيك نصه في خاتمة المطاف .
( 2 ) ابن حزم ، الفصل في الملل والنحل 3 : 32 ; ولاحظ : ابن القيم ، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح : 229 .( * )
– ص 59 –
في اللغة بمعنى الرؤية ، فرد عليه بأنه ليس بمعنى الرؤية ، بشهادة أنه سبحانه جمع في الآية بين إثبات الرؤية ونفي الدرك ، ولكنه غفل عن أن مبدأ الاستدلال ليس ذلك ، وقد قلنا سابقا : إن الإدراك في اللغة بمعنى اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ابتداء ، وإنما يتعين في النظر والرؤية حسب المتعلق ، ولأجل ذلك لو جرد عن المتعلق – كما في الآية – لا يكون بمعنى الرؤية ، ولذلك جمع فيها بين الرؤية ونفي الدرك ، لأن الدرك هناك بحكم عدم ذكر المتعلق كالبصر ، بمعنى اللحوق والوصول ، فقد وقع الترائي بين الفريقين ، ورأى فرعون وأصحاب بني إسرائيل ، ولكن لم يدركوهم أي لم يلحقوهم .
وعلى ضوء ذلك إذا جرد عن المتعلق مثل البصر والسمع يكون بمعنى اللحوق ، وإذا اقترن بمتعلق مثل البصر يتعين في النظر والرؤية ، لكن على وجه الإطلاق من غير تقيد بالإحاطة .
فبطل قوله : بأن الإدراك يدل على معنى زائد على النظر وهو الإحاطة ، بل الإدراك مجردا عن القرينة لا يدل على الرؤية أبدا ، ومع اقتران القرينة ووجود المتعلق يدل على الرؤية والنظر على وجه الإطلاق من غير نظر إلى الفرد الخاص من الرؤية .
وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلى شيء ، حيث قال : لا نسلم إن إدراك البصر تعبير عن الرؤية ، بل هو بمعنى الإحاطة ، فالمرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار إحاطة به فسمى هذه الرؤية إدراكا ، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكا ،
– ص 60 –
فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان ، رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة ، والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك ، فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية ، ونفي النوع لا يوجب نفس الجنس ، فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عنه .
ثم قال : فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم ( 1 ).
ويلاحظ عليه بأن ما ذكره الرازي كان افتراء على اللغة للحفاظ على المذهب ، وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي ، ولولا أن الرازي من أتباع المذهب الأشعري لما تجرأ بذلك التصرف .
ونحن بدورنا نسأله : ما الدليل على أن الإدراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعنى الإدراك الإحاطي ، مع أننا نجد خلافه في الأمثلة التالية ، نقول : أدركت طعمه أو ريحه أو صوته ، فهل هذه بمعنى أحطنا إحاطة تامة بها ، أو أنه بمعنى مجرد الدرك بالأدوات المذكورة من غير اختصاص بصورة الإحاطة ، مثل قولهم أدرك الرسول ، فهل هو بمعنى الإحاطة بحياته أو يراد منه إدراكه مرة أو مرتين ، ولم يفسره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي .
وحاصل الكلام : أن اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الإدراك كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلي أي اللحوق والوصول ، على الرؤية والسماع ، سواء كان الإدراك على وجه الإحاطة أو لا ، وأما إذا تجردت
( 1 ) الرازي ، مفاتيح الغيب 13 : 127 .( * )
– ص 61 –
اللفظة عن القرينة تكون بمعنى نفس اللحوق ، قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ( يونس / 90 ) ومعنى الآية : ( حتى إذا لحقه الغرق ) ورأى نفسه غائصا في الماء استسلم وقال : ( آمنت . . . ) .
وقال سبحانه : ( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ) ( طه / 77 )، أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل .
وقال سبحانه : ( فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ( الشعراء / 61 ) فأثبت الرؤية ونفى الدرك ، وما ذلك إلا لأن الادراك إذا جرد عن المتعلق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتا ، بل بمعنى اللحوق .
نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحضا في الرؤية من غير فرق بين نوع ونوع ، وتخصيصه بالنوع الإحاطي لأجل دعم المذهب افتراء على اللغة
رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين
5 – الآية الثانية : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
قال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) ( طه / 109 – 110 ).
إن الآية تتركب من جزئين :
الأول : قوله : ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) .
الثاني : قوله : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) . والضمير المجرور في قوله : ( به ) يعود إلى الله سبحانه .
ومعنى الآية : الله يحيط بهم لأنه ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) ويكون معادلا لقوله : ( وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) ولكنهم ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) . ويساوي قوله ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ )
– ص 63 –
وأما كيفية الاستدلال فبيانها أن الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزئها ، فهي نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه ، وقد قال : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) .
ولكن الرازي لأجل التهرب من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه قال : بأن الضمير المجرور يعود إلى قوله : ( مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم ، والله سبحانه محيط بما بين أيديهم وما خلفهم .
أقول : إن الآية تحكي عن إحاطته العلمية سبحانه يوم القيامة بشهادة ما قبلها ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) ، وعندئذ يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه : ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) هو الحياة الأخروية الحاضرة ، وقوله سبحانه : ( وَمَا خَلْفَهُمْ ) هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الأخروية ، وحينئذ لو رجع الضمير في قوله ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) إلى الموصولين يكون مفاد الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين ، وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه ، وهذا بخلاف ما إذا رجع إلى الله ، فستكون الآية بصدد التنزيه ويكون المقصود أن الله يحيط بهم علما وهؤلاء لا يحيطون كذلك ، على غرار سائر الآيات
رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين
6 – الآية الثالثة : قال لن تراني
قال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / 143 ).
لقد استدل – بهذه الآية – كل من النافي والمثبت ، رغم أن ليس لها إلا مدلول واحد ، فكان بين القولين تناقض واضح ، ومرد ذلك إلى أن أحد المستدلين لم يتجرد عن هواه حينما استدل بالآية ، وإنما ينظر إليها ليحتج بها على ما يتبناه ، وهذا من قبيل التفسير بالرأي الذي نهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنه بالخبر المتواتر ، وبالتالي قل من نظر إليها بموضوعية خالية عن كل رأي مسبق .
المفهوم الصحيح للآية : لا شك أننا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثر ذهنه
– ص 65 –
بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النافين والمثبتين ، وطلبنا منه أن يبين الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها ، وهل هي بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها ؟ فسيجيب بصفاء ذهنه بأن الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية ، وأن سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلا بالتوبة ، فسيكون فهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلمين أو المجادلين .
كما أن إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيرا صناعيا فلا شك أنه يدل أيضا على تعاليه عنها ، وذلك لوجوه :
1 – الإجابة بالنفي المؤبد : لما سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أجيب ب‍ ( لَن تَرَانِي ) ، والمتبادر من هذه الجملة أي قوله : ( لَن تَرَانِي ) هو النفي الأبدي الدال على عدم تحققها أبدا . والدليل على ذلك هو تتبع موارد استعمال كلمة لن في الذكر الحكيم ، فلا تراها متخلفة عن ذلك حتى في مورد واحد .
1 – قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) ( الحج / 73 ).
2 -( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) ( التوبة / 80 ).
3 -( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) ( محمد / 34 ).
4 -( سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) ( المنافقون / 6 ).
– ص 66 –
5 -( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ( البقرة / 120 ).
6 -( فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا ) ( التوبة / 83 ).
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أن لن تفيد التأبيد . وربما نوقش في دلالة ( لن ) على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم لن موضوعة للتأبيد ، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين ثم نعرض المناقشة عليهما .
1 – إن المراد من التأبيد ليس كون المنفي ممتنعا بالذات ، بل كونه غير واقع ، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان ، نعم ربما يكون عدم الوقوع مستندا إلى الاستحالة الذاتية .
2 – إن المراد من التأبيد هو النفي القاطع ، وهذا قد يكون غير محدد بشيء وربما يكون محددا بظرف خاص ، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحالة ما دام الظرف باقيا .
إذا عرفت الأمرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنه قال : ما نقل عن أهل اللغة إن كلمة لن للتأبيد دعوى باطلة ، والدليل على فساده قوله تعالى في حق اليهود ( وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ) ( البقرة / 95 ) قال : وذلك لأنهم يتمنون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار ، قال سبحانه : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ) ( الزخرف / 77 ) فإن المراد من ( ليقض علينا )
– ص 67 –
هو القضاء بالموت ( 1 ).
ووجه الضعف ما عرفت من أن التأبيد على قسمين ، غير محدد ومحدد بإطار خاص ، ومن المعلوم أن قوله سبحانه ( وَلَن يَتَمَنَّوْهُ ) ناظر إلى التأبيد في الإطار الذي اتخذه المتكلم ظرفا لكلامه وهو الحياة الدنيا ، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنون الموت أبدا ، لعلمهم بأن الله سبحانه بعد موتهم يقدمهم للحساب والجزاء ، ولأجل ذلك لا يتمنوه أبدا قط .
وأما تمنيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فلم يكن داخلا في مفهوم الآية الأولى حتى يعد التمني مناقضا للتأبيد .
ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو : أنه ربما يقال : إن لن لا تدل على الدوام والاستمرار بشهادة قوله : ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) إذ لو كانت ( لن ) تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة ( الْيَوْمَ ) لأن اليوم محدد معين ، وتأبيد النفي غير محدد ولا معين ، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب : ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي ) ( يوسف / 80 ) حيث حدد بقاءه في الأرض بصدور الإذن من أبيه ( 2 ).
وجه الوهن : أن التأبيد في كلام النحاة ليس مساويا للمعدوم المطلق ، بل المقصود هو النفي القاطع الذي لا يشق ، والنفي القاطع الذي لا يكسر ولا يشق على قسمين :
( 1 ) الرازي ، مفاتيح الغيب 14 : 227 .
( 2 ) عباس حسن ، النحو الوافي 4 : 281 كما في كتاب رؤية الله للدكتور أحمد بن ناصر . ( * )
– ص 68 –
تارة يكون الكلام غير محدد بظرف خاص ولا تدل عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذ يساوق التأبيد المعدوم المطلق . وأخرى يكون الكلام محددا بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية ، فيكون التأبيد محددا بهذا الظرف أيضا ، ومعنى قول مريم : ( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) ( مريم / 26 ) هو النفي القاطع في هذا الإطار ، ولا ينافي تكلمها بعد هذا اليوم .
والحاصل : أن ما أثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الإمعان فيما ذكرنا من الأمرين ، فتارة حسبوا أن المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربما يكون المدخول أمرا ممكنا كما في قوله : ( فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا ) ( التوبة / 83 )، وأخرى حسبوا أن التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق ، فناقشوا بالآيات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفيا مطلقا ، ولو أنهم وقفوا على ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات .
وبما أنه سبحانه لم يتخذ لنفي رؤيته ظرفا خاصا ، فسيكون مدلوله عدم تحقق الرؤية أبدا لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة .
والحاصل : أن الآية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل ، ولذلك أمره أن ينظر إلى الجبل عند تجليه ، فلما اندك الجبل خر موسى مغشيا عليه من الذعر ، ولو كان عدم الرؤية مختصا بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل ، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول : لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة فاصبر حتى يأتيك وقته ، والإنسان مهما بلغ كمالا في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي
– ص 69 –
خلق عليها ، وقد بين سبحانه أنه خلق ضعيفا .
2 – تعليق الرؤية على أمر غير واقع :
علق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلي ، وعدم تحوله إلى ذرات ترابية صغار بعده ، والمفروض أنه لم يبق على حالته السابقة ، وبطلت هويته ، وصارت ترابا مدكوكا ، فإذا انتفى المعلق عليه ( بقاء الجبل على حالته ) ينتفي المعلق ، وهذا النوع من التعليق في كلامهم ، طريقة معروفة حيث يعلقون وجود الشيء على ما يعلم عدم وقوعه وتحققه ، والله سبحانه بما أنه يعلم أن الجبل لا يستقر في مكانه – بعد التجلي – فعلق الرؤية على استقراره ، لكي يستدل بانتفائه على انتفائه ، قال سبحانه : ( وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) ( الأعراف / 40 ).
والحاصل : أن المعلق عليه هو وجود الاستقرار بغض النظر عن كونه أمرا ممكنا أو مستحيلا ، والمفروض أنه لا يستقر ، فبانتفائه ينتفي ما علق عليه وهو الرؤية . وبالإمعان فيما ذكر تستغني عن جل ما ذكره المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة حول المعلق عليه ( 1 ).
ولإرادة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي ، قال : إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز ، والمعلق على الجائز جائز ، فيلزم كون الرؤية
( 1 ) القاضي عبد الجبار ، شرح الأصول الخمسة : 265 ; والشريف الجرجاني ، المواقف 8 : 121 ;
والرازي ، مفاتيح الغيب 14 : 231 ، ولا حاجة لنقل كلماتهم في المقام . ( * )
– ص 70 –
في نفسها جائزة بدليل قوله : ( فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه ، فثبت أنه تعالى علق رؤيته على جائز الوجود في نفسه . . . ( 1 ).
ويلاحظ على كلامه أن المعلق عليه ليس إمكان الاستقرار وكونه أمرا ممكنا مقابل كونه أمرا محالا عليه حتى يكون أمرا حاصلا ويلزم منه وجود المعلق ، أعني الرؤية ، مع أن المفروض عدمها ، بل المعلق عليه بقاء الجبل على ما كان عليه ، إذ لو كان المعلق عليه إمكان الاستقرار يلزم نقض الغرض وتحقق الرؤية لموسى ( عليه السلام ) بل المعلق عليه هو بقاء الجبل على حالته التي كان عليها حين التكلم ، والمفروض أنه لم يبق عليها ، بل دك وصار ترابا مستويا بالأرض ، فبانتفائه انتفى المعلق ، أعني الرؤية .
3 – تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية :
تذكر الآية أن موسى لما أفاق فأول ما تكلم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال : ( سبحانك ) وذلك لأن الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص ، فنزه سبحانه عنها ، فطلبها نوع تصديق لها .
ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربما يقال : إن المراد – من التنزيه هنا – هو تنزيه الله وتعظيمه وإجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه
( 1 ) الرازي ، مفاتيح الغيب 14 : 231 .( * )
– ص 71 –
الفناء ، حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله ورسوله في دار الآخرة ، وليست الرؤية من النقائص على ما يدعيه نفاتها ، فهي ليست نقصا في المخلوق ، بل هي كمال ، وكل كمال اتصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى ( 1 ).
يلاحظ عليه : بأنه من أين وقف على اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء ، مع إطلاق الآية ، ولماذا لا يجعل الموضوع لعدم تحملها الوجود الإمكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين .
وما ذكره في آخر كلامه من أن كل كمال اتصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به صحيح من حيث الضابطة والقانون ، لكنه باطل من حيث التطبيق على المورد ، فإن ما يوصف به المخلوق على قسمين :
فمنه ما يكون كمالا له ككونه عالما قادرا حيا سميعا بصيرا ، فالله أولى بأن يوصف به ، ومنه ما لا يكون كمالا له ككونه مرئيا للغير ، فلا يوصف به سبحانه ، ولو افترضنا كونه كمالا للأول ، لكنه يكون موجبا للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلى المكان ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
وكان الأولى للكاتب وأشباهه أن لا يخوضوا غمار هذه المسائل التي تحتاج إلى قدر كبير من التفكر والعناية الخاصة . إذا لم تستطع أمرا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
( 1 ) الدكتور أحمد بن ناصر ، رؤية الله تعالى : 47 – 48 ( * )
– ص 72 –
4 – توبته لأجل طلب الرؤية :
إن موسى ( عليه السلام ) بعدما أفاق ، أخذ بالتنزيه أولا والتوبة والإنابة إلى ربه ثانيا ، وظاهر الآية أنه تاب من سؤاله ، كما أن الظاهر من قوله : ( وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) إنه أول المصدقين بأنه لا يرى بتاتا .
وللباقلاني أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري كلاما في تفسير التوبة ، أشبه بالتفسير بالرأي ، قال : يحتمل إن موسى تاب لأجل أنه ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها ، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى ، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذه المسألة العظيمة ( 1 ).
لكن كل ما ذكره وجوه لا يتحملها ظاهر الآية ، وإنما تورط فيها لأجل دعم المذهب ، وهذا هو الذي ندد به النبي الأكرم وقال : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ، ومثله قول الرازي في تفسير قوله : ( وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) بأنه لا يراك أحد في الدنيا ، أو أول المؤمنين ، بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك ( 2 ).
رؤية الله في الذكر الحكيم
دراسة أدلة المثبتين

7 – الآية الأولى : إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات متعددة والمهم فيها هو الآية التالية ، أعني قوله سبحانه : ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( القيامة / 20 – 25 ).
يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الإعتقاد : إن النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ويقال انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة في ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة اللام ، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة إلى ، فيحمل على الرؤية ( 1 ).
أقول : لقد طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية ، بين مثبتي الرؤية ونافيها ، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام ، فإن
( 1 ) القوشجي ، شرح التجريد : 334 .( * )
– ص 80 –
المثبتين يركزون على أن الناظرة بمعنى الرؤية ، كما أن نافيها يفسرونها بمعنى الانتظار ، مع أن تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثر في إثبات مدعيها كما سيظهر ، والحق عدم دلالتها على جواز رؤية الله بتاتا ، وذلك لأمرين :
الأول : أنه سبحانه استخدم كلمة وجوه لا عيون ، فقسم الوجوه إلى قسمين : وجوه ناضرة ، ووجوه باسرة ، ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون ، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعين استخدام العيون بدل الوجوه ، والعجب أن المستدل غفل عن هذه النكتة التي تحدد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردد بين المعنيين ، وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث موردا نسب فيه النظر إلى الوجوه وأريد منه الرؤية بالعيون والأبصار ، بل كلما أريد منه الرؤية نسب إليهما .
الثاني : لا نشك أن الناظرة في قوله ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) بمعنى الرائية ، ونحن نوافق المثبتين بأن النظر إذا استعمل مع إلى يكون بمعنى الرؤية ، لكن الذي يجب أن نلفت إليه نظر المستدل هو أنه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي ، ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي ، فلو قلنا : زيد كثير الرماد ، فالجملة مستعملة في معناها اللغوي ، ولكن كثرة الرماد مراد استعمالي لا جدي ، والمراد الجدي هو ما اتخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب ، والمراد هنا هو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه ، فإذا قال الرجل : زيد كثير الرماد ، فلا نقول : إن القائل أخبرنا عن كثرة الرماد في
– ص 85 –
بيت زيد الذي يعد أوساخا ملوثة لبيته ، فيكون قد ذمه دون أن يمدحه ، بل يجب علينا أن نقول : بأنه أخبر عن جوده وسخائه ، والعبرة في النسبة المراد الجدي لا الاستعمالي ، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء .
والآن سنوضح مفاد الآية ونبين ما هو المراد الاستعمالي والجدي فيها ، وذلك لا يعلم إلا برفع إبهام الآية بمقابلها ، فنقول : إن هناك ستة آيات تقابلها ثلاثة ، وهي كالآتي :
1 -( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ) يقابلها : ( وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) .
2 -( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ) يقابلها : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ) .
3 -( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) يقابلها : ( تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) .
فلا شك أن الآيات الأربع الأول واضحة لا خفاء فيها ، وإنما الإبهام وموضع النقاش هو الشق الأول من التقابل الثالث ، فهل المراد منه جدا هو الرؤية ، أو أنها كناية عن انتظار الرحمة ؟
والذي يعين أحد المعنيين هو الشق الثاني من التقابل الثالث ، أعني ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) فهو صريح في أن أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ، ويظنون نزوله .
وهذا الظن لا ينفك عن الانتظار ، فكل ظان لنزول العذاب منتظر ، فيكون قرينة على أن أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربهم ، أي يرجون رحمته ، وهذا ليس تصرفا في
– ص 86 –
الآيات ولا تأويلا لها ، وإنما هو رفع الإبهام عن الآية بالآية المقابلة لها ، وترى ذلك التقابل والانسجام في آيات أخرى ، غير أن الجميع سبيكة واحدة .
1 -( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ) يقابلها : ( ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ) .
2 -( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) يقابلها : ( تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) ( 1 ). فإن قوله ( ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ) قائم مقام قوله ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فيرفع إبهام الثاني بالأول .
3 -( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ) يقابلها : ( عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ) ( الغاشية / 2 – 4 ).
4 -( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ) يقابلها : ( لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ) الغاشية / 8 – 10 ).
أنظر إلى الانسجام البديع ، والتقابل الواضح بينهما ، والهدف الواحد ، حيث الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة ، إلى ناضر ومسفر ، وناعم وإلى باسر ، وأسود ( غبرة ) وخاشع .
أما جزاء الصنف الأول فهو الرحمة والغفران ، وتحكيه الجمل التالية : إلى ربها ناظرة ، ضاحكة مستبشرة ، في جنة عالية .
وأما جزاء الصنف الثاني فهو العذاب والابتعاد عن الرحمة ،
( 1 ) عبس : 38 – 40 .( * )
– ص 87 –
وتحكيه الجمل التالية : تظن أن يفعل بها فاقرة ، ترهقها قترة ، تصلى نارا حامية .
أفبعد هذا البيان يبقى شك في أن المراد من ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) هو انتظار الرحمة ! ! والقائل بالرؤية يتمسك بهذه الآية ، ويغض النظر عما حولها من الآيات ، ومن المعلوم أن هذا من قبيل محاولة إثبات المدعى بالآية ، لا محاولة الوقوف على مفادها .
ويدل على ذلك أن كثيرا ما تستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب ، وإليك بعض ما ورد في ذلك : وجوه بها ليل الحجاز على الهوى إلى ملك كهف الخلائق ناظرة وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن يأتي بالفلاح فلا نشك أن قوله : وجوه ناظرات بمعنى رائيات ، ولكن النظر إلى الرحمن هو كناية عن انتظار النصر والفتح . إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر فلا ريب أن اللفظين في الشعر وإن كانا بمعنى الرؤية ، ولكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين ، بل الصبر والانتظار حتى يعينه .
قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( آل عمران / 77 )، والمراد من قوله : ( لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ ) هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطفه عليهم ، لا عدم مشاهدته إياهم ، لأن رؤيته وعدمها ليس أمرا مطلوبا لهم
– ص 88 –
حتى يهددوا بعدم نظره سبحانه إليهم ، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم ، والذي يصح تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم ، فيكون المراد عدم تعطفه إليهم ، على أن تفسير قوله ( لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ ) ب‍ لا يراهم يستلزم الكفر ، فإنه سبحانه يرى الجميع ( وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) .
والحاصل : أن النظر إذا أسند إلى العيون يكون المعنى بالمراد الاستعمالي والجدي هو الرؤية على أقسامها ، وإذا أسند إلى الشخص كالفقير أو إلى الوجوه فيراد به الرؤية استعمالا والانتظار جدا .
ثم إن لصاحب الكشاف هنا كلمة جيدة ، حيث يقول بهذا الصدد : يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي يريد معنى التوقع والرجاء ، ومن هذا القبيل قوله : وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما وقال : سمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول : عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ، تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها ، كما هو معنى قولهم : أنا أنظر إلى الله ثم إليك ، وأتوقع فضل الله ثم فضلك ( 1 ).
9 – رؤية الله في الأحاديث النبوية
قد تعرفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه ، وأنه كلما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها كان يستعظم ذلك ويستفظعه إجمالا ، وعندما يطرحها تفصيلا يعدها أمرا محالا ، كما عرفت أن ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدل على ما يدعون .
بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد ، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك ، لكن الكلام في حجية الروايات التي تعارض الذكر الحكيم وتباينه ، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمنا على سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمنا على السنن المروية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، التي دونت بعد مضي 341 سنة من رحيله ( صلى الله عليه وآله ) ولم تصن عن دس الأحبار والرهبان ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ) ( المائدة / 48 ) وقال
– ص 101 –
تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( النمل / 76 ).
ولا يعني ذلك ، حذف السنة من الشريعة ورفع شعار حسبنا كتاب الله ، بل يعني التأكد من صحتها ثم التمسك بها في مقام العمل .
وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية :
روى البخاري في باب الصراط جسر جهنم بسنده عن أبي هريرة قال : قال أناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم . . . إلى أن يقول : ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا رب قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاوها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثم يقول بعد ذلك : يا رب قربني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلي إن أعطيتك
– ج 1 ص 102 –
ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنة ، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : ربي أدخلني الجنة ، ثم يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك ( الله ) ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها . . . الحديث ( 1 ).
ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، مع اختلاف يسير ( 2 ).
ورواه أيضا عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئا ، مرتين أو ثلاثا ، حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه . . . الحديث ( 3 ).
وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص ، ورواه
( 1 ) البخاري ، الصحيح 8 : 117 باب الصراط جسر جهنم .
( 2 ) صحيح مسلم 1 : 113 باب معرفة طريق الرؤية .
( 3 ) صحيح مسلم 1 : 115 باب معرفة طريق الرؤية . ( * )
– ص 103 –
أحمد في مسنده ( 1 ).
تحليل الحديث إن هذا الحديث مهما كثرت رواته وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه
1 – إنه خبر واحد لا يفيد شيئا في باب الأصول والعقائد ، وإن كان مفيدا في باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقا للواقع أو لا ، بل يكفي قيام الحجة على لزوم تطبيق العملة عليه ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشئ ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلا إذا بلغ إلى حد يورث العلم والإذعان ، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين .
2 – إن الحديث مخالف للقرآن ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين ( رحمه الله ) .
3 – ماذا يريد الراوي في قوله : فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ؟ فكأن لله سبحانه صورا متعددة يعرفون بعضها وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ ، أم في الآخرة ؟ 4 – ماذا يريد الراوي من قوله : فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ،
( 1 ) مسند أحمد بن حنبل 2 : 368 .( * )
– ص 104 –
فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه . . . ؟ فإن معناه أن المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالة عليه .
5 – كفى في ضعف الحديث ما علق عليه العلامة السيد شرف الدين ( رحمه الله ) حيث قال : إن الحديث ظاهر في أن لله تعالى جسما ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير ، وأنه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأمة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلا لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل ، فيقول لهم : أنا ربكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثم يأتيهم مرة ثانية في الصورة التي يعرفون ، فيقول لهم : أنا ربكم ، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعا : نعم أنت ربنا ، وإنما عرفوه بالساق إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنى حينئذ السجود للمؤمنين منهم دون المنافقين ، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلا فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر ، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذا به بعد هذا يضحك الرب ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب ، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان مما لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ( 1 ).
* * * *
( 1 ) كلمة حول الرؤية : 65 ، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة ، وقد مشينا في ضوئها ، رحم الله مؤلفها رحمة واسعة . ( * )
– ص 105 –
2 – روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب مواقيت الصلاة وفضيلتها ، عن قيس ( ابن أبي حازم ) عن جرير قال : كنا عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنظر إلى القمر ليلة – يعني البدر – فقال : إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ( 1 ).
وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه معارضا للكتاب ضعيف سندا وإن رواه الشيخان ، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده الذي ترجمه ابن عبد البر وقال : قيس بن أبي حازم الأخمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عهده وصدق إلى مصدقه وهو من كبار التابعين مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان عثمانيا ( 2 ).
وقال الذهبي : قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ثقة حجة كاد أن يكون صحابيا ، وثقه ابن معين والناس ، وقال علي بن عبد الله بن يحيى بن سعيد : منكر الحديث ثم سمى له أحاديث استنكرها ، وقال يعقوب الدوسي : تكلم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه ، وقال : له مناكير فالذين أطروه عدوها غرائب ، وقيل : كان يحمل على علي ( رضي الله عنه ) ، إلى أن قال : والمشهور أنه كان يقدم عثمان ، وقال إسماعيل : كان ثبتا ، قال :
( 1 ) البخاري ، الصحيح 1 : 111 – 115 الباب 26 و 35 من أبواب مواقيت الصلاة ط . مصر ; ورواه مسلم في صحيحه ، لاحظ صحيح مسلم بشرح النووي 5 : 136 ; وغيرهما .
( 2 ) ابن عبد البر ، الإستيعاب 3 برقم 2126 .( * )
– ص 106 –
وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف ( 1 ).
وقد تقدم أن العدل والتنزيه علويان ، كما أن الجبر والتشبيه أمويان ، وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى ، معرضا عن الإمام علي ( عليه السلام ) ، وعاش حتى خرف ؟ أو أن الواجب ضربها عرض الحائط .